in

نشأة الدستور

إنّ الدستور هو مجموعة القواعد التي تنظّم تأسيس السلطة وانتقالها وممارستها أي تلك المتعلقة بالتنظيم السياسي.

وهذه القواعد يمكن أن توجد بأسلوبين فهي إما أن تكون وليدة السوابق والعرف والتقاليد بدون أن تجمع وتدوّن في وثيقة رسمية وهذا ما يسمونه الدستور العرفي أو أن تكون مدونةً صراحة في وثيقة رسمية مكتوبة وهذا ما يسمى الدستور المدوّن.

الدستور العرفي

بقي التنظيم السياسي للدول المختلفة يخضع بكامله تقريباً للعرف حتى القرن الثامن عشر ففي كلّ بلد تكونت فكرة الدولة ببطء وتشكلت مجموعة من التقاليد والأعراف والمبادئ الأساسية تكوّن في مجموعها القانون الدستوري العرفي.

وما يزال نموذج الدساتير العرفية وأشهرها حتى الآن الدستور الإنكليزي، بالرغم من وجود عناصر مكتوبة فيه، والجزء المدوّن من هذا الدستور ينمو باطراد إذ أن التعديلات التي تمسّ الحاجة إلى إجرائها خلال زمن قصير تفرض بالضرورة أن يتم التعديل بنص مدوّن يحل محل القاعدة العرفية السائدة، وبالرغم من ذلك فإن معظم القواعد المتعلقة بالتنظيم السياسي الإنكليزي ما تزال عرفية لا تتضمنها أية وثيقة مكتوبة فوجود النظام الملكي نفسه وصلاحيات الملك وبشكل خاص حقه في تصديق القوانين وتقسيم البرلمان إلى مجلسين وشكل الحكم البرلماني القائم منذ بداية القرن التاسع عشر ومسؤولية الوزراء سياسياً أمام مجلس العموم دون مجلس اللوردات وكيان مجلس الوزراء و منصب رئيسه فهذه كلها أمور أساسية ومع ذلك ليس من نص مكتوب ينظمها بل تخضع للقواعد العرفية وحدها ويسلم بقوتها الإلزامية.

مبررات التدوين

آمن الفقهاء في القرن الثامن عشر بضرورة تدوين القواعد الدستورية وارتفع هذا الإيمان إلى مرتبة العقيدة لديهم وذلك للأسباب التالية:

  1. إنّ القاعدة القانونية الخطية تتفوق على القاعدة العرفية من حيث تمتعها بالدقة والوضوح مما يلزم الحاكم التقيد بنصوصها بينما يبقى العرف غامضاً مضطرباً وينطبق ذلك على الدستور باعتباره أخطر القواعد القانونية وأبعدها أثراً في حياة المجتمع والأفراد.
  2. الدستور تجديد للعقد الاجتماعي الذي التزم الأفراد بمقتضاه بالروابط الاجتماعية وانتظموا في المجتمع فالعقد يخلق المجتمع والدستور ينظمه وينبغي بالتالي أن تكون أحكامه معروفة لجميع الأفراد ومعلّمة بشكل رسمي ليتعرف الأفراد على الامتيازات التي يتخلون عنها لمصلحة الجماعة والحقوق التي احتفظوا بها تلك الحقوق التي لا شأن للدولة بها ولا يجوز لها مصادرتها لأنها حقوق طبيعية للأفراد وخير سبيل إلى ذلك جمعها وتدوينها في وثيقة رسمية.
  3. إنّ تدوين الدستور وصياغته بعبارات واضحة وسيلة لتعميم التربية السياسية فيعرف الأفراد حقوقهم ويزداد تعلقهم بالأمور العامة ويرتفعون بذلك إلى مستوى المواطن الذي يعرف ماله وما عليه ويشارك طوعاً في بناء مستقبله.

ويتبين من هذه الاعتبارات أن مفهوم الدستور لدى مفكري القرن الثامن عشر كان يتجاوز النطاق القانوني البحت ليتعدّاه إلى المجال السياسي فالدستور يرتبط في أذهانهم بإقامة نوع معين من أشكال الحكم.

انتشار الدستور المدوّن

إنّ مفهوم الدستور المدوّن أقدم من القرن الثامن عشر فقد جمع الفيلسوف أرسطو دساتير158 ‪ مدينة يونانية وغير يونانية، وكذلك المواثيق والعهود التي انتشرت في القرون الوسطى فقد كانت مدونة تهدف كلها إلى تقييد حقوق السلطة إلا أنّ الجديد في القرن الثامن عشر هو ارتباط فكرة الدستور بالنظرات السائدة آنذاك عن العقد الاجتماعي وما ينطوي عليه من قيود والتزامات وما يترتب على ذلك من ضرورة وجود مجموعة من القواعد التنظيمية تقيم ترتيباً عقلانياً ومتناسقاً تتضمنها وثيقة مدونة، وقد انتشر الأخذ بالدستور المدون في العالم على مراحل متتالية وفق التالي:

ظهرت الطائفة الأولى من الدساتير الحديثة المدونة في الولايات المتحدة الأمريكية ومع الثورة الفرنسية ظهر الدستور الفرنسي وتلته موجة من الدساتير في الدول الأوروبية التي احتلتها جيوش الثورة، ويمكن أن نميز فيها ثلاث مراحل الدساتير الثورية، دساتير العهد النابليوني، دساتير مرحلة الردة.

بعدها تحررت المستعمرات الإسبانية والبرتغالية في العالم الجديد في بداية القرن التاسع عشر وانتشرت النظم السياسية المقتبسة من الولايات المتحدة الأمريكية ودستورها كما أدت الاضطرابات السياسية في أوروبا ومقاومة الشعوب للاستبداد إلى ظهور موجة من الدساتير بين 1830 و 1848 ارتبطت بهذه الحركات التحررية.

جاءت بعدها الحرب العالمية الأولى التي انتهت بانهيار الإمبراطورية النمساوية والألمانية والعثمانية والروسية فقامت على أنقاضها دول جديدة أخذت كلها بنظام الدستور المدوّن وظهر أول الدساتير الاشتراكية.

أدّت الحرب العالمية الثانية إلى انحسار المدّ الاستعماري على معظم أجزاء العالم لاسيما في آسيا الجنوبية الشرقية وأفريقيا والشرق الأوسط وقيام دول وطنية وضعت كلها دساتير مدونة تنظم شؤون الحكم فيها بحيث نجد في مطلع عام 1978 حوالي 145 ‪ دستوراً في العالم منها 141 لدول أعضاء في الأمم المتحدة

ومن العوامل التي تدفع الدول الجديدة إلى التعجيل في وضع دستور لها أن هيئة الأمم المتحدة تجعل من قيام دستور في الدولة شرطاً لقبولها عضواً في الهيئة العالمية.

Report

Written by Muhammed Saleh

What do you think?

Leave a Reply